الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.بناء مدينة بغداد. وابتدأ المنصور سنة ست وأربعين في بناء مدينة بغداد وسبب ذلك ثورة الراوندية عليه بالهاشمية ولأنه كان يكره أهل الكوفة ولا يأمن على نفسه منهم فتجافي عن جوارهم وسار إلى مكان بغداد اليوم وجمع من كان هناك من البطارقة فسألهم عن أحوال مواضعهم في الحر والبرد والمطر والوحل والهوام واستشارهم فأشاروا عليه بمكانها وقالوا تجيئك الميرة في السفن من الشام والرقة ومصر والمغرب إلى المصرات ومن الصين والهند والبصرة وواسط وديار بكر والروم والموصل في دجلة ومن أمينية وما اتصل بها في تامرا حتى يتصل بالزاب بين أنهار كالخنادق لا تعبر إلا على القناطى والجسور وإذا يكن لعدوك مطمع وأنت متوسط بين البصرة والكوفة وواسط والموصل قريب من البر والبحر والجبل فشرع المنصور في عمارتها وكتب إلى الشام والجبل والكوفة وواسط والبصرة في الصناع والفعلة واختار من ذوي الفضل والعدالة والعفة والأمانة والمعرفة بالهندسة فأحضرهم لذلك منهم: الحجاج بن أرطأة وأبو حنيفة الفقيه وأمر بخطها بالرماد فشكلت أبوابها وفضلانها وطاقاتها ونواحيها وجعل على الرماد حب القطن فاضرم نارا ثم نظر إليها وهي تشتعل فعرف رسمها وأمر أن تحفر الأسس على ذلك الرسم ووكل بها أربعة من القواد يتولى كل واحد منهم ناحية ووكل أبا حنيفة بعد الآجر واللبن وكان أراده على القضاء والمظالم فأبى فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له عملا فكان هذا وأمر المنصور أن يكون عرض أساس القصر من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين وجعل في البناء القصب والخشب ووضع بيده أول لبنة وقال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم قال ابنوا على بركة الله فلما بلغ مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد المهدي فقطع البناء وسار إلى الكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه ورجع من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد واستمر في بنائها واستشار خالد بن برمك في نقض المدائن والإيوان فقال: لا أرى ذلك لأنه من آثار الإسلام وفتوح العرب وفيه مصلى علي بن أبي طالب فاتهمه بمحبة العجم وأمر بنقض القصر الأبيض فإذا الذي ينفق في نقضه أكثر من ثمن الجديد فأقصر عنه فقال خالد: لا أدري إقصارك عنه لئلا يقال عجزوا عن هدم ما بناه غيرهم فأعرض عنه ونقل الأبواب إلى بغداد من واسط ومن الشام ومن الكوفة وجعل المدينة مدورة وجعل قصره وسطها ليكون الناس منه على حد سواء وجعل المسجد الجامع بجانب القصر وعمل لها سورين والداخل أعلى من الخارج ووضع الحجاج ابن ارطاة قبلة المسجد وكان وزن اللبنة التي يبنى بها مائة رطل وسبعة عشر رطلا وطولها ذراع في ذراع وكانت جماعة من الكتاب والقواد تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع وكانت الأسواق داخل المدينة فأخرجهم إلى ناحية الكرخ لما كان الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها وجعل الطرق أربعين ذراعا وكان مقدار النفقة عليها في المسجد والقصر والأسواق والفضلان والخنادق والأبواب أربعة آلاف ألف وثمانمائة ألف وثلاثة وثلاثين ألف درهم وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط والروز كاري بحبتين وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلا بما بقي عنده وأخذه حتى أخذ من خالد بن الصلت منهم خمسة عشر درهما بعد أن حبسه عليها..العهد للمهدي وخلع عيسى بن موسى. كان السفاح قد عهد إلى عيسى بن موسى بن علي وولاه الكوفة فلم يزل عليها فلما كبر المهدي أراه المنصور أبوه أن يقدمه في العهد على عيسى وكان يكرمه في جلوسه فيجلس عن يمينه والمهدي عن يساره فكلمه في التأخر عن المهدي في العهد فقال: يا أمير المؤمنين كيف بالإيمان التي علي وعلى المسلمين وأبى من ذلك فتغير له المنصور وباعده بعض الشيء وصار يأذن للمهدي قبلة ولعمه عيسى بن علي وعبد الصمد ثم يدخل عيسى فيجلس تحت المهدي واستمر المنصور على التنكر له وعزله عن المكوفة لثلاث عشرة سنة من ولايته وولى مكان محمد بن سليمان بن علي ثم راجع عيسى نفسه فبايع المنصور للمهدي بالعهد وجعل عيسى من بعده ويقال إنه أعطاه أحد عشر ألف ألف درهم ووضع الجند في الطرقات لأذاه وإشهاد خالد بن برمك عليه جماعة من الشيعة بالخلع تركت جميعها لأنها لا تليق بالمنصور وعدالته المقطوع بها فلا يصح من تلك الأخبار شيء.
|